الاسلام في اندونسيا

الاسلام في اندونسيا

بقلم السيد حسين محمد الكاف

 

من الوثنية الى الهندوس والبوذا

لايخفى على من له ادنى اطلاع على العالم الاسلامي ان اندونسيا تشكل اكبر دولة اسلامية من حيث عدد سكانها كما وانها بلاد اشتهرت بثروات ارضها الخصبة الفائضة وطبيعتها الجميلة الخلاّبة. وهي منذ حقب سالفة من الزمان قد جلبت الكثير من التجار من المناطق الأسيوية (كالهند والصين) والشرق الاوسط (كالعرب والفرس) والمناطق الأوربية (كالاسبانية وبورتغال وهولندا وانكلترا). وتعتبر اندونسيا بحكم ذاتها الثرية والخلابة مركز التجارة في الشرق الاقصى حيث أرفأت الى ميناءها السفن التي تأتي من تلك المناطق وتقلّ محصولاتها الى ابناء الشعب الاندونسي ثم هي بدورها تأخذ من اندونسيا البهارات والأخشاب لتقلّها الى بلدانها. هكذا جرت المبادلات التجارية بين الشعب الاندونسي وغيره من الشعوب المجاورة والنائية.

اعتقد المؤرخون ان المبادلات بين الشعب الاندونسي و الأجانب قد حصلت قبل السنة الميلادية من خلال سفراتهم البحرية، وان الملاحين الاندونسيين قد اعتادوا على اختراق البحار، ذلك لأن جلّ معاشهم وارتحالاتهم لاتنفك عن البحار والانهار[1]. والملفت للنظر ان بعضهم اعتقدوا ان الشعب الأجنبي الذي حلّ في اندونسيا في ذلك الوقت هم العرب. قال احد المؤرخين الاندونسي، احمد منصور سوريانغرا، نقلا عن نظرية الكاتب الغربي،T.W  Arnold، ” ان العرب منذ قرنين ماقبل الميلادي قد تسلطوا على التجارة في سيلان[2].

وقد أيّد هذا الاعتقاد الكاتب الغربي الأخر، Cooke على حسب ما نقله الاستاذ عبد الله بن نوح والسيد ضياء شهاب في مقالتيهما في ” مؤتمر تاريخ دخول الاسلام في اندونسيا ” 20 مارس 1963 [3]

ان هذا الاعتقاد فضلا عن الإعتقاد بأن العرب اول اجنبي حلّ في اندونسيا يحتاج الى كثير من البراهين التي انطلقت من الواقعيات التاريخية التي يمكن الإعتماد عليها، إلا انه ليس من المستحيل اذ كانت القوة الفارسية او الرومية منذ سنوات ماقبل الميلاد قد شملت رقعة سلطنتهما الى آسيا الوسطى والافريقا ولديهما الأساطيل البحرية التي تمكّنهما للوصول الى الجزر الإندونسية.

على أي حال، ان القدر المتيقن من التحقيقات التاريخية التي لايعتريها غموض هو ان المبادلات قد قامت في القرن الثاني الميلادي. كانت المبادلات في ريعان امرها تنحصر في التجارة. ومع مرور الزمان وتقوّي المبادلات التجارية تتعدى المبادلات من التجارية الى الأواصر الثقافية والاجتماعية حتى تتلاحم الصداقة والوداد بين الشعب الاندونسي و الشعوب الأتية اليهم. وبما ان تلك الشعوب كانت متقدمة من حيث الحضارة فقد أثّرت الحضارة  الاندونسية وتركت للشعب الاندونسي آثارا ثقافية ملحوظة كما هو المشاهد في بعض تقاليده وكلماته ,وعلى سبيل المثال كانت الكلمات ذات اصل عربي او فارسي او هندي او صيني او أوربي مندمجة في كلمات او لغة اندونسية.

وفي هذا السياق نفسه، فإن نمط الديانة السائد في اندونسيا من أبرز الآثار التي اعقبتها تلك المبادلات و العلاقات المكثفة كما سيوافيكم قريبا. وقد كان منذ قرون ماضية او ما يعبّر عنه ” بسنوات ما قبل التاريخ ” يؤمن الشعب الاندونسي بوجود روح الإله في جميع مخلوقاته، وان لكل شيئ قوة يقتبسها من روح الإله،فربما يعبد بعض منهم الاشجار او الاحجار زاعما ان روح الإله فيها أقوى،وبعض أخر يؤمن بأن روح الإله في أبائهم الموتى اقوى فيعبدونهم، كما ان بعضا منهم يعبد الحيوانات الضارية خوفا منها لأن روح الإله قد يتجلى بما يخيف الناس، شأنهم في تلك القرون شأن الناس البدائيين السذج.[4]

ثم بعد ان تتمّ العلاقات بأبعادها المختلفة – والعلاقة الاجتماعية على وجه الخصوص-، بدأوا يتركون الوثنية واستبدلوا ها بدين جديد مستورد من الأجانب مع الحفاظ على بعض تقاليد الوثنية. ولا زالت بعض النواميس الدينية القديمة تلوح عند بعض معتنقي الهندوس والبوذا والاسلام والنصراني في اندونسيا. وعلى سبيل المثال، اعتياد بعض المسلمين الساكنين على طول الشاطئ الجنوبي في جزيرة جاوى في بعض المراسيم التقليدية على رمي رأس البقر اوالغنم في وسط البحر تقديما ذلك الى ملكة البحر الجنوبي ” يي رارا كدول ” (Nyi Roro Kidul) لتؤمّنهم من الشرور والبلايا، او اعتياد الهندوسيين في جزيرة ” بالي ” على تقديم الطعام الى شجرة كبيرة حيث سكن فيها روح الإله كل صباح ومساء، او اعتياد بعض المسيحيين في منطقة ” تانا توراجا ” (Tana Toraja) التابعة لجزيرة سولاويسي على تخليد رؤوس الأموات تمجيدا لها.

والمذكور سابقا خير شاهد على ان تعاليم تلك الأديان الأجنبية لم تكن يتقبّلها بعض الشعب الاندونسي كليا وشموليا من ألفها الى يائها، بل هناك ” أخذ وعطاء ” بينهم وبين الأجانب في مسألة التدين. قال الدكتور علوي شهاب ناقلا قول ” سيغان ” (Siagan)، ” أن كل اندونسي،مهما تقدّم، لازال يتأثر بدينه الأصلي البدائي-قليلا اوكثيرا- ويدمجه في ديانته الجديدة، سواء أكان هندوسيا او بوذيا او مسلما او مسيحيا ” [5]

هذه الكلية التي صرّحها ” سيغان ” مجرد إدعاء غير مطعّم ببرهان علمي فلايمكن قبولها, لأن بعض المسلمين في اندونسيا -كما هوالمشاهد بالعيان- لايتأثرون ولو بقدر رأس أنملة في ممارسة شؤون دينهم بالدين القديم ولا تشمّ منهم رائحة الوثنية اصلا.

وحسبما ورد الينا من تحقيقات تاريخية وتؤيدها النقوش من على الاحجار، أن أول أجنبي نسق العلاقة مع الشعب الاندونسي هو الشعب الهندي. و في هذا الصدد، قال الكاتب الاندونسي ” أريودي ” (Ariwiadi) نقلا عن كاتب هولندي ” كورم ” (Krom) ما ملخّصه بعد التعريب،

” ان تنسيق العلاقة بين الشعب الاندونسي و الشعب الهندي بدأ في اوائل القرن المسيحي. في الواقع أن الشعب الهندي نسق العلاقة التجارية مع الصين عبر الجزر الاندونسية فالتجّار الهنديون في كثير من الأحايين حلّوا فيها. و مع مرور الزمان وبعد حصول الوئام بين اهلها تزوجوا مع نسائها. فصارت العلاقة بينهم اكثر من مجرد التجارة بل حصلت المبادلات الثقافية والاجتماعية الوثقى “.[6]

 فبناء على ذلك، ان الدين الذي جاء به التجّار الهنديون الى الجزر الاندونسية و ساد في الهند – أعني الهندوس والبوذا – صار دينا يعتنقه الشعب الاندونسي في كلا طبقتيه، طبقة حاكمة وطبقة محكومة، حتى انتشر هذا الدين في ارجاء الجزر الاندونسية واقام فيها مملكات متعددة ذات صبغة هندوسية او بوذية  [7] كمملكة ” كوتاي ” (Kutai) في جزيرة كلمنتان وهي اولى مملكة هندوسية – بوذية في اندونسيا و مملكة ” سريويجايا ” (Sriwijaya) القرن 7- 13 الميلادي) في سومطراء ومملكة ” ماجا باهيت ” (Majapahit) (1293 – 1478) في جاوى وغير ذلك. وقد وقعت بينهم مشاكسات أدّت الى انقراض احداها وقيام اخرى. فدين الهندوس او البوذا – اذن- اول دين اجنبي دخل الى الجزر الاندونسية وأزاح الوثنية منها، ثم أسّس مملكات هندوسية و بوذية. آخر مملكة هندوسية – بوذية واكبرها هي مملكة ” ماجا باهيت ” حيث امتدّت رقعة سلطنتها الى سنغابورا وماليسيا وبعض المناطق في تايلند. في رأيي، ان سعة مملكة ” ماجا باهيت ” المذكورة لايخلو من المبالغة -كما سيتضح عند ما نتحدث عن انتشار الاسلام في اندونسيا-، وذلك لانّ المتسلطين على اندونسيا من بعد انجلاء القوة الاستعمارية من عنصرية جاوية. وهم ارادوا اظهار تفوقهم على بقية العنصريات في اندونسيا. وهذا امر يحسّه من ادقّ النظر في تاريخ اندونسيا.

ولا بد من الإشارة الى ان اسم اندونسيا قبل مجيء الاستعمار الاوربّي لم يكن اسما مألوفا، وانما هي جزر مترامية محاطة بقارتي آسيا واوستراليا و المحيطين الهادي و الأطلسي ويعبر عنها باسم ” نوسنتارا ” (Nusantara). ولا زال هذا الاسم الى يومنا هذا مألوفا ومتداولا بينهم.

 

دخول و انتشار الاسلام في اندونسيا

ثم عقب سطوع نور الاسلام في الجزيرة العربية بيد زعيمه الأول السيد الأجل محمد – صلى الله عليه وآله (571-632 الميلادية)، توسّعت رقعة السلطنة الاسلامية من بعد وفاته حتى شملت بعض المناطق الأوربية والأفريقية. وهذا مما جعل نفسية المسلمين في أعلى الوثوق بأنفسهم و أدّى بهم الى الاستعداد التام للمغامرة في كافّة حقول اجتماعية مع غيرهم من اصحاب الحضارات من ناحية، و لنشر الإسلام كدين حرّر الناس من عبودية العباد الى عبودية رب الأرباب من ناحية أخرى الى أن دخل الاسلام الى الجزر الاندونسية كأثر من المبادلات التجارية بين الشعب الاندونسي والتجّار الآتين من الشرق الاوسط -العرب والفرس-. نعم، متى دخل الاسلام الى اندونسيا؟ لم يعلم بالتحديد بداية دخول الاسلام اليها،والأقوال فيها مختلفة كإختلافها في اول من نشر الاسلام في اندونسيا.

لقد أحسن المؤرخ الاندونسي الشهير، احمد منصور سوريا نغرا(Ahmad Mansur Suryanegara) في توضيحه عن ان هناك ثلاث نظريات عن دخول الاسلام الى اندونسيا، وكل واحدة منها تبيّن عن تاريخ دخول الاسلام و عن البلاد التي انحدر منها الاسلام و عن القائمين بنشره مع ذكر الإختلافات في هذه النواحي نفسها

 

ألاولى وهي أشهرها:

ان الاسلام دخل الى اندونسيا من غوجرات (Gujarat) التابعة للهند في القرن الثالث عشر الميلادي او القرن السابع الهجري بواسطة التجار الهنديين المسلمين. واول من صرّح هذه النظرية المستشرق الهولندي ” Snouck Hurgronje  [8] (1857-1936) ثمّ تبعه فيها العديد من الكتاب الاندونسيين القوميين وارسلتها الحكومة الاندونسية ارسال المسلمات ودرّستها لطلاب المدرسة عبر كتب التاريخ الدرسية.

تبتني هذه النظرية على مقدمات لاتقوم الا على اساس التخمين, وقد ردّ عليها دكتور علوي شهاب في كتابه ” التصوف الاسلامي وآثاره في التصوف الاندونسي المعاصر ” . وسيتضح خطأها قريبا عند ما نسرد النظرية الثانية.

 

النظرية الثانية:

ان الاسلام دخل الى اندونسيا في القرن السابع الميلادي او القرن الثاني الهجري بواسطة التجار العرب،وأيّد هذه النظرية وجود المجتمع العربي في سومطراء الغربية في هذا القرن بالذات. قال ” ج.س. ون لوير ” (J.C van Leur) في كتابه Indonesia: Trade and Society انه في سنة 674 الميلادية قد وجد المجتمع العربي في شاطئ سومطراء الغربية.

ثم أعرب احمد منصور ان الاستاذ عبد الملك كريم امر الله (Hamka)، العالم الشهير في اندونسيا (المتوفى سنة 1980)، ممن قال بالنظرية الثانية ودحض النظرية الاولى بالشدة وأنها محاولة لتحريف تاريخ الاسلام في اندونسيا مضيفا الى ان المستشرق الهولندي ” Snouck Hurgronje ” اشتهر بعدائه الصريح الى الاسلام والعرب.[9]

ويمكن القول ان المسلمين كانوا منذ القرن السابع الى ماقبل القرن الخامس عشر الميلادي ليسوا الا تجمّعات لاتمتلك السلطة والبطش، واذا كانت لديهم مملكات اسلامية في هذه القرون فلا تشمل الا على بعض المناطق في جزيرة سومطراء. ثم إثر وجود المساكشات داخل مملكة ” ماجابهيت ” و سقوط سلطة ” براهمة ” (BRAHMANA) الهندوسية سنة 1526 و مملكة VIJAYANAGAR البوذية سنة 1556 في الهند، بدأت شوكة ” ماجابهيت ” تضعف وتتردّى. وهذا الوضع المتردي الذي ألمّ ” ماجابهيت ” أتاح الفرصة للمسلمين في جاوى لنشر دينهم ونفوذهم أكثر تكثيفا في اندونسيا. حتى وصل بهم الامر الى قيام مملكة اسلامية كبرى بعد ان تغلبوا على ” ماجابهيت ” في مدينة ديماك (DEMAK) التابعة لجاوى وسطى في القرن الخامس عشر.فقد اختلف المؤرّخون في سنة قيام هذه المملكة[10]. و الملك الاول فيها ” رادين فتّاح ” الذي يحظى بتأييد من العلماء في جاوى.

وهذا على خلاف ماجرى في سومطراء. وقد قامت فيها مملكات اسلامية صغيرة مستقلة في القرن التاسع الميلادي او القرن الثالث الهجري قبل مملكة Demak بعدة قرون، لأن الاسلام – باتّفاق المؤرخين الاسلاميين في اندونسيا- دخل الى جزر اندونسية من جزيرة سومطراء ثم منها انتشر الى سائر الجزر الاندونسية.

والمؤسف عليه، ان الحديث عن الدعوة الاسلامية و المملكات الاسلامية في خارج جزيرة جاوى لايشتهر بمثل مااشتهر الحديث عنهما في جزيرة جاوى. واغلبية الكتب التاريخية تصبّ اهتمامها الى الاسلام في جزيرة جاوى حتى ينسبق الى أذهان الأكثرية ان ناشري الاسلام في اندونسيا هم العلماء التسعة (Walisongo) وكلهم في جزيرة جاوى مع ان بعضا منهم جاء من جزيرة سومطراء او كان جدّ بعضهم دفن في جزيرة سولاوسي. فقبل مجيئ الاسلام الى جزيرة جاوى كانت جزيرة سومطراء وسلاوسي قد تعرّفت على الاسلام واعتنقته. وسيوافيكم بعد نقل النظرية الثالثة اطلالة خاطفة عن المملكات الاسلامية في سومطراء وانها متزامنة مع المملكات الهندوسية-البوذية في جاوى.

 

النظرية الثالثة:

ان الذين نشروا الاسلام في اندونسيا هم الفرس الشيعة لوجود المجتمع الفارسي في منطقة شمالية من جزيرة سومطراء (أتشيه) منذ القرن الخامس عشر[11]. هناك ملاحظة تفرض نفسها بأن العالم الاسلامي منذ العقد الثاني من هجرة الرسول -صلى الله عليه واله وسلم – قد شمل على الارض الفارسية،وهي بعدئذ قد تلاحمت مع العرب ولايمكن الانفكاك بينهما سيما في عصر الخلافة العباسية. فيمكن التوفيق بين هذه النظرية و النظرية الثانية بأن المجتمع المسلم في أتشيه تشكلوا من العرب والفرس , اذ كان العرب بحسب النظرية الثانية قد تواجدوا في سومطراء غربية منذ القرن السابع الميلادي. واما ما يتعلق بكون الناشرين الاولين هم الشيعة فموكول بحثه الى الابحاث الأتية ان شاء الله.

المملكات الاسلامية

ان ازدياد معتنقي الاسلام في اندونسيا وتعاقب مجيئ المسلمين من الخارج جعلهم امة واحدة جمعتهم كلمة التوحيد (لا اله الا الله محمد رسول الله). وبطبيعة الامة الأقلية التي عاشت بين الأكثرية، كانت العرى الإخائية بينهم وطيدة وشعور المواساة قويا، الامر الذي ادى بالمسلمين الى مسيس الحاجة من تشكيل قوة تحمي حقوقهم في اداء فرائض الدين وشعائره، وتدفع عنهم الهجوم والأذى من الخارج. ولا نفهم من كلمة المملكة اوالدولة الا تلك القوة رغم اننا غير مؤمنين ان الأحكام الاسلامية بجميع شعبها (العبادات والمعاملات والحدود) نفّذت كلية في المملكات الاسلامية الكائنة في اندونسيا.

على أي حال، ان قيام مملكات اسلامية مما يشهده الواقعي الاندونسي القديم ويسجّله لنا كتب التاريخ الاندونسية.

 

المملكات الاسلامية في جزيرة سومطراء SUMATRA

اتضح مما سبق من تاريخ دخول الاسلام في اندونسيا ان الاسلام دخل الى اندونسيا في القرن السابع الميلادي وان جزيرة سومطراء -ان صح التعبير- بمثابة بوّابة لمن اراد الدخول الى بقية الجزر الاندونسية. فبناء عليه, ان المجتمع المسلم قد تواجدوا في سومطراء قبل تواجدهم في غيرها , بل قد قامت في بعض مناطقها مملكات اسلامية كما ستوافيك الاشارة اليها قريبا.

لقد ذكر البروفسور أ. هشمي في رسالته عن دخول الاسلام وانتشاره في اندونسيا وجود المملكات الاسلامية في سومطراء منذ القرن التاسع الميلادي او القرن الثالث الهجري، ويعتمد في رسالته هذه على المخطوطات القديمة بعضها بالعربية ككتاب ” إظهار الحق ” لأبي اسحاق المكراني الفاسي و كتاب ” تذكرة طبقات جمع السلاطين ” لشمس البحر عبد الله بن السيد حبيب سيف الدين.[12]

 

الف- مملكة برلاك   PERLAK

يذكر في المخطوطات المذكورة سالفا ان اول مملكة اسلامية في اندونسيا هي مملكة ” برلاك ” (Perlak) الواقعة في جزيرة سومطراء و قامت في سنة 225 او 227 الهجرية إثر انقضاض مملكة هندوسية-بوذية ” سريويجايا ” (Sriwijaya) في سومطراء[13]. قال البروفسور أ.هشمي:

” في سنة 173 هجرية أرفأت سفينة الى ميناء برلاك (Perlak) وأقلّت مائة نفر من عرب وفرس وهند. ومن بين المستقلّين السيد علي من قريش ثم تزوّج هذا السيد بأحدى بنات ” برلاك ” (Perlak) وأنجب منها ولدا اسمه السيد عبد العزيز. ثم في غّرة محرم سنة 225 هجرية اعلن قيام مملكة ” برلاك ” الاسلامية، واول من تولّى على منصّة الحكومة هو السيد عبد العزيز الملقّب بالسلطان علاء الدين السيد مولانا عبد العزيز شاه.[14]

ثم ذكر أ.هشمي نسب السيد عبد العزيز الذي صار الملك الاول في مملكة ” برلاك ” الاسلامية وتمّت الموافقة عليه من مجلس العلماء التابع لحكومة أتشيه الحالي بأنه السيد عبد العزيز بن السيد علي بن السيد محمد الديباج بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام علي زين العابدين بن الامام الشهيد الحسين بن الامام علي بن أبي طالب.[15]

وفي كتاب ” شمس الظهيرة ” للسيد عبد الرحمن بن محمد المشهور ذكر بأن احد اولاد الامام جعفر- الامام السادس من أئمة اهل البيت عند الشيعة الامامية- المسمّى بالسيد محمد الديباج قد خالف الخليفة المأمون العبّاسي ثم ذهب الى بلاد العجم وتوفّي فيها سنة 183 هجرية.[16]

فبادئ ذي بدء يصعب للبعض التصديق علي ان الملك السيد عبد العزيز الذي كان من سلالة الرسول – صلى الله عليه وأله وسلم – كيف وصل الى هذه المنطقة البعيدة وصار حاكما عليها؟ و لكن إمعان النظر الى حياة ومصير أئمة اهل البيت واولادهم وشيعتهم بعد استشهاد الامام الشهيد الحسين-عليه السلام- بكربلاء سوف يجعلهم يصدّقون بلا أيّ تريّث , اذ كانوا بين مقتولين أو مشرّدين أو مسجونين وكان تاريخ حياتهم مليئا بالدماء والدموع. وان الكثرة الكثيرة من السادة المنتسبة الى الرسول الاكرم انتشروا في البلدان النائية من مركز الاسلام وهاجروا الى الأماكن التي يصعب اليها الوصول خوفا من الخلافة الأموية والعباسية وحفاظا على الدين والأنفس. والسيد محمد الديباج بن الامام جعفر الصادق عليه السلام هاجر الى بلاد العجم ثم من بعده هاجر ابنه السيد علي الى جزيرة سومطراء وتزوج بإحدى نسائها. وسنعود الى هذا البحث عند ما نتحدث عن الشيعة في اندونسيا ان شاء الله تعالى.

ثم وقعت في هذه المملكة المنازعات المذهبية بين الشيعة واهل السنة حتى تمّ الإنهزام لحكومة آل السيد عبد العزيز وتولّى من بعدهم حكّام اخرون من اهل السنة والجماعة. واليكم اسماء الملوك من آل السيد عبد العزيز ومدة حكومتهم:

ملوك مملكة برلاك من الشيعة ( سلالة الامام جعفر الصادق ع) :

1- السلطان علاء الدين السيد مولانا عبد العزيز شاه سنة 225- 249 هجرية /840- 846 ميلادية.

2- السلطان علاء الدين السيد مولانا عبد الرحيم شاه سنة 249- 285 /864- 888 ميلادية.

3- السلطان علاء الدين السيد مولانا عباس شاه سنة 285-300 هجرية / 888- 913 ميلادية.

4- السلطان علاء الدين السيد مولانا علي مغيّاة شاه سنة 302- 305 هجرية / 915- 918 ميلادية.

 

ملوك ” برلاك ” من اهل السنة :

1- السلطان مخدوم علاء الدين ملك عبد القادر شاه جهان بردولت سنة 928-932 ميلادية.

2- السلطان مخدوم علاء الدين ملك محمد امين شاه جهان بردولت سنة 932-956 ميلادية.

3- السلطان مخدوم علاء الدين عبد الملك شاه جهان بردولت سنة 956- 983 ميلادية.

 

ب- مملكة باساي   PASEI

ثم قامت مملكة ” باساي ” التي استمرّت من سنة 1261- 1496 ميلادية. واشهر ملوكها الملك الصالح (1261-1289) الذي ينتهي نسبه الى ملوك مملكة ” برلاك ” الثانية السنية , والسلطان احمد بهيان شاه ملك الزاهر (1326- 1345 ميلادية). وقد كان أثناء حكومته جاء الى ” باساي ” السائح الشهير إبن بطوطة.

تعتبر مملكة ” باساي ” آنذاك مركزا اسلاميا في جنوب شرق آسيا و تلعب دورا مهما في نشر الاسلام الى كافة جزر اندونسية مثل كلمنتان وسولاويسي وجاوى.

ج- مملكة  سياك  SIAK

قامت هذه المملكة قبل مجيئ الاسلام الي هذه المنطقة وهي بعد لم يزل سكانها على الوثنية ثم جاء الهندوس والبوذا فظلّت المملكة تتّسم بالهندوس والبوذا، وآثار الوثنية والهندوس والبوذا لاتزال باقية فيها الى يومنا هذا. اما دين الاسلام فدخل الى ” سياك ” تقريبا في القرن الثاني عشر الميلادي, ثم مع مرور الزمان وانتشار الاسلام فيها أسلم ملك ” سياك ” فتحوّلت مملكة ” سياك ” الهندوسية-البوذية الى مملكة اسلامية حتى مابعد استقلال اندونسيا من ربقة القوة الاستعمارية الهولندية.

وفي عهد الاحتلال الأوربّي على المناطق الاندونسية قام اهلها بمناضلة القوة الاستعمارية التي مثّلتها بورتغال وهولندا فهي بالتالي من بين المناطق الاندونسية التي لم تخضع للاستعمار. ثم إثر اعلان استقلال اندونسيا من هولندا سنة 1945 الميلادية فوّض سلطان ” سياك ” وهو سلطان شريف قاسم الثاني حكومته الى اندونسيا كدولة جديدة معترفة دوليّا للانضمام معها.[17]

دخول الاسلام وانتشاره في جزيرة جاوى

بعد ان استتبّ الاسلام وتقوّت المملكة الاسلامية في Pasei (1261-1497) واعتبرت هي مركزا اسلاميا حيث بعث منها الدعاة المبلغون الى الجزر الاندونسية منها جزيرة جاوى، شرع يتّسع نفوذ الاسلام الى المناطق التي وقعت تحت حكومة الهندوسية والبوذية ويشعّ نوره آفاق العالم الاندونسي الرحب.و حسب ما وصل الى بعض المحققين أن دخول الاسلام في جاوى حصل في اوائل القرن العاشر الميلادي مستندين على اكتشافهم من الخط الحجري المنقوش من على مقبرة فاطمة بنت ميمون في Leran من مناطق جاوى الشرقية حيث كتب فيها سنة ولادتها (او وفاتها) وهي سنة 475 الهجرية (1082 الميلادية)[18] ، الا ان انتشاره الواسع الملحوظ كان بعد مجيئ الدعاة الذين عرفوا بالأولياء التسعة (Walisongo) في القرن الثالث عشر وما بعده.

 

الأولياء التسعة

لم يختلف رأسان في اندونسيا ان لهولأء الأولياء التسعة اليد الطولى في نشر الاسلام في جزيرة جاوى، واليكم أسماء هؤلأء الأولياء:

  1. مولانا ملك ابراهيم وهو اول داعية اسلامية جاء الى جاوى ولم يعرف بالتحديد سنة مجيئه الى جاوى الا انه توفي في 12 ربيع الاول 882 او 822  هجرية او 1419 ميلادية [19] ويفرض انه اقام في مدينة Gresik التابعة لجاوى لمدة عشرين سنة [20]. يقول المحقق منهاج الأفكار ان مولانا ملك ابراهيم كان في اول امره ذهب لمواجهة ملك Majapahit ودعاه الى الاسلام ولم يجب الملك دعوته الا انه اجاز له للإقامة في جاوى بل وهبه ارضا في قرية Gapura الواقعة في مدينة Gresik ليجعله مركز دعوته.[21]
  2. سنن امبل Sunan Ampel واسمه احمد رحمة الله , وله قرابة قريبة مع ملك ذلك لأن زوجة الملك ليست الا خالته المسماة بPutri Darawati وهي بنت ملك Campa في كمبوديا. وكان لهذا الملك بنت اخرى زوّجها للداعي العربي ابراهيم اسمورو بعد اعتناقه للاسلام ثم انجب هذا الداعي احمد رحمة الله.فمجيء Sunan Ampel الى جاوى مضافا الى الدعوة ليزور خالته[22]. ولمجيئه الى جاوى -بلا شك- تأثير ملموس للدعوة الاسلامية بحيث انه وان لم ينجح في دعوة الملك الى الاسلام قد فوضت اليه حكومة المنطقة الشرقية من مدينة Gresik ثم اسس المدرسة الاسلامية فيها.[23]
  3. سنن قيري Sunan Giri ابن مولانا اسحاق الملقب بالسلطان عبد الفقيه. ذكر Thomas W. Arnold انه من مواليد سنة 1365.[24]
  4. سنن بوننغ Sunan Bonang وهو مولانا ابراهيم بن احمد رحمة الله (Sunan Ampel) عاش في فترة 1465-1525.
  5. سنن درجات Sunan Derajat وهو مولانا شريف الدين بن احمد رحمة الله.
  6. سنن كالي جاقا Sunan Kalijaga وهو مولانا محمد الشهيد. اختلف المؤرخون في نسبه فبعضهم قال انه زوج لإحدى بنات Sunan Ampel وبعضهم قال انه انتسب الى رسول الله (ص) كغيره من العلماء التسعة.
  7. سنن قدس Sunan Kudus وهو جعفر الصادق بن Sunan Ampel. قال د. علوي شهاب انه ابن عثمان.[25]
  8. سنن موريا Sunan Muria وهو مولانا رادين عمر سعيد بن جعفر الصادق.
  9. سنن قونونج جاتي Sunan Gunung Jati وهو مولانا الشريف هداية الله (1448-1568)

بالطبع ان ناشري الاسلام في جاوى لاينحصرون بهؤلاء التسعة فحسب، بل هنالك علماء اخرون أتوا اليها متقدمين عليهم او متزامنين معهم او متأخرين منهم.

 

مملكة  DEMAK  (1513-1549 الميلادية)

ثم وصلت الدعوة الاسلامية في جاوى أوجها بعد انقضاض مركز مملكة Majapahit في سنة 1478 الميلادية ثم قامت على إثرانقضاضها مملكة Demak الاسلامية في اوائل النصف الأول من القرن الخامس عشر الميلادي هنالك العديد من أسباب انقضاض Majapahit كمركز المملكة الهندوسية-البوذية التي يعود بعضها الى المنازعات الداخلية وبعضها الى الامور الخارجية، و نعرض عن ذكرها في هذا الكتاب.

والجدير بالذكر، ان المملكة الهندوسية – البوذية لا تنتهي بانقضاض مملكة Majapahit، بل قامت بعده مملكات هندوسية -بوذية صغيرة تتسلط على بعض المناطق البعيدة من مركز مملكة Majapahit سواء أكانت في جاوى الشرقية او الغربية. ولكنها سرعان ما تلاشت عندما هجم عليها مملكة Demak،وعلى سبيل المثال مملكة Kediri استسلمت الى المسلمين في سنة 1526 الميلادية و مملكة Pasuruan في سنة 1546 الميلادية، كلتاهما في جاوى الشرقية، وفي جاوى الغربية قامت مملكة Pajajaran التي تحالفت مع بورتغال عند ما اشتعلت نار الحرب بينهم وبين المسلمين وغلب عليهم المسلمون تحت زعامة سلطان رادين فتح الله في سنة 1527 الميلادية.[26]

لم تدم مملكة Demak متسلطة على جاوى الا مدة قصيرة (36 او 35 سنة). وتفرقت مملكتها الى عدة مملكات صغيرة ومحدودة:كمملكة Jepara ومملكة Cirebon ومملكة Banten وغيرها، مغبّة المنازعات الداخلية والمنافسات لأجل السلطة. وقد نقلت كتب التاريخ القديمة عن اسماء الملوك الذين حكموا على مملكة Demak واختلف كل واحد منها في ذكر اسماءهم الا ان هذا الإختلاف يهدف الى اشخاص متماثلة وهم على أشهر الأقوال:

  1. رادين فتاح RADEN FATAH
  2. بانغران سبرانج لورPENGERAN SABRANG LOR
  3. بانغران ترنغنا PANGERAN TREANGGANA[27]
  4. سسهنان براوا SUSUHUNAN PRAWA[28]

ثم ثانية المملكة الاسلامية ذات النفوذ الواسع في جاوى والمناطق الشرقية هي مملكة  MATARAM التي سيطرت المملكات الاسلامية الأخرى الصغيرة.

وأنهي الحديث عن دخول الاسلام وانتشاره في اندونسيا،والحديث عنه بحاجة الى كتاب مستقل ومبسّط لأن الغرض الأصيل والبيت القصيد في هذه الصفحات هو الاطّلاع على الإتّجاهات الاسلامية في اندونسيا. فلنعرض -إذن- عن الحديث عن المملكات الاسلامية في جاوى كما نعرض عن الحديث عن الاسلام ومملكاته في بقية الجزر الإندونسية كجزيرة كلمنتان وسولاويسي ومالوكو.

 

المذهب السائد في اندونسيا ,السنة ام الشيعة؟

لايجد امرء مسلم يتضلع المذاهب الاسلامية ولو يسيرا أي صعوبة في الإجابة على هذا السؤال، فإنه سوف يجيب بملء فمه،وهو على يقين بما يجيب، ان المذهب السائد في اندونسيا هو أهل السنة والجماعة. ولكنه إذا تفحص بالدقة الممارسات والتقاليد الدينيية التي مارسها المسلمون في اندونسيا سوف يتراجع عن إجابته تلك ويبدأ يفكر أن بعض ممارساتهم لم يكن لها اساس ومصدر ديني سنّي من كتب الحديث او كتب الفقه. وهب في ذلك، عقد حفلة مولد الرسول (ص) وذكرى وفيات العلماء البارزين ومجلس الذكر على الميّت ثلاث ليالي متواليات وفي اليوم السابع واليوم الأربعين من بعد موته. وإذا التفت الى كتب الشيعة وتعرّف على ممارساتهم الدينية سوف يحكم ان السائد في اندونسيا ليس مذهبا سنيّا بالمئة بل للشيعة جذور وآثار ملحوظة. وهذا مايدفع الثلة من المراقبين لتاريخ دخول الاسلام في اندونسيا – كالأستاذ ابي بكر أتشيه والسيد ضياء شهاب و الاستاذ عبد الله بن نوح- الى القول بوجود الشيعة في غابر الزمان كما قلت في الاسطر السالفة.

على أي حال، وجود آثار الشيعة في اندونسيا أمر لايمكن الإنكار عليه الا ان هذه الآثار صارت تراثا ثقافيا دينيا فحسب. وهذا التراث لا يغيّر الواقع الديني المعاصر السائد والحاكم فيها، فأكثرية المسلمين الساحقة في اندونسيا- بلا شك – أهل السنة والجماعة. و اما الشيعة فليسوا الا الأقلية القليلة المعدودة. وليس هذا العدد بشيئ يذكر اذا قيس بعدد سكان اندونسيا البالغ مائتي مليون نسمة. ولا أعني من اهل السنة والجماعة بمعناه الدقيق في الفقه والكلام بل عبارة عن الذين يمارسون دين الاسلام بحسب ما وصل اليهم من القرآن والحديث المروي من الصحابة. فكل مسلم او طائفة اسلامية متقيدة بالقرآن والحديث المروي عن الصحابة يشملها معنى اهل السنة والجماعة مهما اختلفت اتجاهاتهم في الكلام والفقه.

والملاحظ ان المسلمين في اندونسيا رغم تفيئهم في ظل اهل السنة والجماعة كما نشهده في ممارساتهم واتجاهاتهم الدينية الا انهم ليسوا على وتيرة واحدة في تقيدهم وتمسكهم بأهل السنة والجماعة، فبعض منهم يقلدون الامام الشافعي في الفقه والأشعرية في الكلام وهم مانصطلح عليهم بالتقليديين،وبعض أخر يستنكفون من التقليد الى أئمة مذهب الفقه بل يراجعون الى الكتاب والسنة مباشرة وهم ماسموا انفسهم بالمجددين (سوف نتكلم عن الطائفتين بالتفصيل)، وبعض ثالث يمارسون الدين بحسب ماوصل اليهم من المعلومات الدينية من خلال مطالعاتهم لكتب الحديث والفقه والتفسير ولاينتمون الى الطائفتين المذكورتين، ولكن الأكثرية منهم لايفهمون شيئا عن المذهب الشافعي والأشعري بل لايعرفون مصطلح ومعنى اهل السنة والجماعة اصلا،والذي يهمهم في حفظ كيانهم الاسلامي ان ادّوا الصلاة والصوم وغيرهما تقليدا عن ابائهم وبيئتهم. ونحن لانتكلم هنا عن الاتجاه الفكري الديني للأكثرية لأنهم لااتجاه لهم في الدين ولااهتمام به اصلا فهم اتباع كل ناعق. و انما الكلام ينصبّ في اولئك الذين يرون الدين- جزئيا اوكليا – مبدأ لحياتهم الشخصية والإجتماعية.

وبعد هذه الملاحظة نقول بالتأكيد ان واقع المسلمين الحالي في اندونسيا بشكل عام اهل السنة والجماعة. وهذا الواقع ما نشهده في ممارستهم الدينية حيث انهم في اداء فرائض الدين يطبّقون فتاوى الامام الشافعي او علماء الشافعية او يراجعون الأحاديث مباشرة من كتب علماء اهل السنة، ويتضح ذلك اكثر في المدارس الاسلامية بحيث تدرس فيها كتب الفقه الشافعي – ككتاب فتح الوهاب وفتح القريب والسفينة- وكتب الكلام الأشعري- الماتريدي – ككتاب الدسوقي وعقيدة العوام – وكتب الحديث- ككتاب بلوغ المرام لإبن حجر العسقلاني وصحيحي البخاري ومسلم.

 

سادة باعلوي

ومما لايعتريه اي ريب وتؤكده كتب التاريخ والحديث ان الرسول (ص) قد ترك ابنته الطاهرة السيدة فاطمة الزهراء -ع- ومنها خرج الامامان الحسن والحسين -ع- ثم منهما كثر وانتشر السادة المنسوبة الى الرسول (ص) حتى ملأوا العالم الاسلامي تصديقا لقول الله تبارك وتعالى وترويحا لقلب الرسول (ص) الحزين بموت ابنه القاسم و تعييبا لشانئه الأبتر ” انا أعطيناك الكوثر “[29]. فقد بارك الله تعالى اقطار العالم الاسلامية بوجود هذا النسل اذ قاموا طوال العصور في كل من جيل اسلامي وارض اسلامية بنشر الاسلام والدفاع عن تعاليم جدّهم، ويمكن القول بالتأكيد – وليست في هذا القول حاجة الى ذكر دليل وشاهد لبداهته – ان لا يخلو بقعة من بقاع الأرض الاسلامية من وجود السادة حيث عاشوا وتلاحموا مع الشعوب المختلفة ودفنوا في اوساطها محترمين مبجّلين نتيجة مساعيهم المشكورة المذكورة.

ومن هؤلاء السادة سادة باعلوي المنسوبون الى السيد علوي بن عبيد الله بن احمد المهاجر بن عيسى بن محمد بن علي بن جعفرالصادق[30] بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليهم السلام(بن السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله -ص)[31]. فكلمة ” سادة باعلوي ” اطلقت على كل سيد ذي نسب متصل الى السيد علوي بن عبيد الله ولا تطلق على كل سيد بأجمعه، فليس كل سيد باعلويا. هذه الطائفة من السادة نشأوا في حضرموت ثم انتشر بعض منهم الى مناطق جنوب شرق آسيا كاندونسيا ومليسيا وتايلندا وفليبين وسنغافورا وبعض المناطق في افريقا بغية نشر الاسلام ثم تناسلوا فيها.

والجدير بالذكر ان هؤلاء السادة مجموعة لها اصالتها واتجاهها الديني ومزاجها النفسي الخاصة لها قد تختلف عن بقية السادة المترامية في العالم الاسلامي فضلا عن عامة المسلمين. وفي هذه الفرصة ارى من اللازم ان اشير الى ما لهذه الطائفة من اتجاهها الديني. وذلك لان دورهم في نشر الاسلام في اندونسيا مما لا يمكن التغاضي عنه، وكان لوجودهم في اندونسيا منذ مجيئهم اليها في القرن الرابع عشر الميلادي الى يومنا هذا احتكاك ديني وثقافي فاعل مع الشعب الاندونسي و يد معطاء في نوع تدينهم. وكفي في ذلك ان الأولياء التسعة في جزيرة جاوى ما عدا Sunan Kalijaga من سادة باعلوي ونسبهم ينتهي الى السيد جمال الدين بن احمد بن عبدالله بن عبد الملك بن علوي بن محمد صاحب مرباط بن علي بن علوي بن محمد بن علوي بن عبيد الله بن احمد المهاجر[32]

 

الاتجاه الديني لسادة باعلوي

والسؤال الذي يطرح نفسه ما هو الاتجاه الديني الذي ساد سادة باعلوي؟ فقبل الجواب على هذا السؤال لابد من ان ألفت القارئ الى الاتجاه الديني لجدّ هؤلاء السادة وهو السيد احمد المهاجر بن عيسى بن محمد بن علي بن الامام جعفر الصادق. يعتبر هذا السيد اماما فاضلا وعشّا لسادة باعلوي انحدر منه نسبهم وعصبتهم. والسيد احمد في الواقع من مواليد بصرة بعراق سنة 260 هجرية، وكان ابوه السيد عيسى وجدّه السيد محمد بن علي بن الامام جعفر الصادق من المهاجرين الاولين من المدينة الى العراق و فيها وافتهما المنية. ثم في سنة 317 هجرية هاجر السيد احمد من بصرة الى حضرموت مرورا على المدينة ومكة لِما شاهد في بصرة من فتن عمياء قاتمة انتابت بها ذرية الرسول (ص) وحروب قائمة على قدم وساق بين الخلفاء العباسيين ومناوئييهم. فكان مجيئه الى حضرموت يبارك اهلها بأحياء ارضها الصعبة ونشر الدعوة الاسلامية التي تلقّاها من أبآئه. وفي حضرموت تناسل واعقب ذريته الكثيرة.[33]

اختلف رأي سادة باعلوي عن مذهب السيد احمد المهاجر بين قائل بانه شيعي امامي تابع لأجداده و بين قائل بأنه سنّي من اتباع الامام الشافعي. والقول الاول يبتني على ان جدّ هذا السيد الثالث وهوجعفر الصادق امام من ائمة الشيعة واستاذ لكثير من ائمة المذاهب السنية كأبي حنيفة و مالك بن أنس[34] و ان جدّه الثاني وهو على بن جعفر من كبار المحدثين الشيعة الذي عاصر ثلاث أئمة الشيعة (الامام موسى الكاظم والامام علي الرضا والامام محمد الجواد)[35] فلا يمكن ان يقلد هذا السيد الى الامام الشافعي او غيره وهو بنفسه محدّث ومجتهد[36]. واما القول الثاني فبلحاظ ذريته من سادة باعلوي فانهم بلا شك من اتباع الامام الشافعي في الفقه و الأشعري في العقيدة والغزالي في التصوف.

ولنعد الى السؤال السالف الذكر ما هو الاتجاه الديني الذي ساد سادة باعلوي؟ فليس هناك أي شك انهم اهل السنة والجماعة ويقلدون الامام الشافعي فهم بالتالي ذو اتجاه ديني تقليدي بمثل مااتجه اليه جمعية ” نهضة العلماء ” ،فهما توأمان في الممارسات الدينية الا ان احدهما يمثّل المظهر العربي-الحضرمي، والأخر يبرز المظهر الاندونسي. وبينهما علاقة التكاتف في مواجهة الحركات التجديدية بل كان لعلماء سادة باعلوي مكانة مرموقة عند التقليديين يحترمونهم لعلمهم ونسبهم المتصل الى الرسول – ص.

.

.

[1] راجع كتب: N.J. Krom و B.H.M. Vlekke و J.C. van Leur و D.G.E Hall.

[2] Menemukan Sejarah, Ahmad Mansur Surya Negara

[3] Risalah Seminar Sejarah Masuknya Agama Islam ke Indonesia, Abdullah bin Nuh dan D. Shahab

[4] راجع هذه الكتب: Agama-Agama di Indonesia, Dr. Siagian, Kepercayaan, Kebatinan, Kerohanian, dan Agama, Rahchmat Subagya

[5] التصوف الاسلامي وأثاره في التصوف الاندونسي المعاصر، دكتور علوي شهاب

[6]  Ikhtisar Sejarah Nasional Indonesia (awal-sekarang), Drs. Ariwiadi.

[7] التصوف الاسلامي وآثاره في التصوف الاندونسي المعاصر، دكتور علوي شهاب ص3

[8] هو المتشرق الهولندي اظهر الاسلام لمصلحة الاستعمار الهولندي واقام فيها لعدة سنوات وتزوج بإمرأتها. بعثه المملكة الهولندية الى مكة لعملية تجسسية على الاندونسيين المقيمين في مكة

[9] Menemukan Sejarah, Ahmad Mansur Suryanegara

[10] J.J. Ras, Tradisi Jawa Mengenai Masuknya Islam di Indonesia, 118-119

[11] Bukhory Ibrahim, Sejarah Masuknya Islam dan Perkembangannya di Indonesia

[12] Prof. A. Hasymi, Sejarah Masuk dab Berkembangnya Islam di Indonesia 1981

[13] Sejarah Nasional Indonesia, III, 87-88

[14] H. Muhammad Syamsu As, Ulama Pembawa Islam di Indonesia dan sekitarnya

[15] نفس المصدر

[16] شمس الظهيرة للسيد عبد الرحمن المشهور ص 1

[17] Muhammad Syamsu, Ulama pembawa Islam di Indonesia dan Sekitarnya,22

[18] Sejarah Islam di Indonesia 89.

[19] H.J. De Graaf & TH. Pigeaud, Kerajaan Islam Pertama di Jawa, 22

[20] Muhammad Syamsu, Ulama Pembawa Islam di Indonesia dan Sekitarnya, 39

[21] ) Minhajul Afkar, Pertumbuhan Masyarakat Muslim di Sekitar Kerajaan Majapahit dan Peranan Malik Ibrahim di Dalamnya 39-40.

[22] Prof. Hamka, Sejarah Umat Islam IV, 136, Salihin Salam, Sekitar Walisanga 30

[23] Muhammad Syamsu, Ulama Pembawa Islam di Indonesia dan Sekitarnya 42

[24] نفس المصدر 51

[25] التصوف الاسلامي وآثاره في التصوف الاندونسي المعاصر 23.

[26] Sejarah Nasional Indonesia III: 90-93

[27] H.J. De Graaf & TH. Pigeaud, Kerajaan Islam Pertama di Jawa, 41-42.

[28]نفس المصدر 85.

[29] التفسير الكبير للامام الفخر الرازي في تفسير سورة الكوثر

[30] الامام جعفر الصادق فما علا الى الامام علي بن ابي طالب أئمة الشيعة الامامية

[31] شمس الظهيرة في نسب اهل البيت من بني باعلوي للسيد عبد الرحمن المشهور

[32] تعليق على شمس الظهيرة ج 2 ح 529، ضياء شهاب

[33] Thariqah ‘Alawiyyah, Umar Ibrahim 19-26

[34] الامام الصادق والمذاهب الأربعة، اسد حيدر 1/70

[35] مسائل علي بن جعفر 19- 25

[36] Thariqah ‘Alawiyyah, Umar Ibrahim 37.

Tinggalkan Balasan

Alamat email Anda tidak akan dipublikasikan. Ruas yang wajib ditandai *