حجّة الله في بعثة الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه وآله و سلّم
حجّة الله في بعثة الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه وآله و سلّم
لو تصفحنا أوراق التاريخ، لِنَقِفَ وَقْفَةَ تأَمُّلٍ في عصرِ ما قبْلَ البعثةِ النبويّة، لأدْركنا كمْ كانت الأوضاع الفاسدة تسود وتنمو في شبه الجزيرة العربية. لقد كان النّاس يعيشون في جوٍّ من الشرك والظلم والضلال، دون نور يرشدهم إلى معرفة الحق. ما كانوا يعتقدون بالمعاد، ولا بالحياة بعد الموت. عبدوا الأوثان و الأصنام، ﴿ وقالوا ماهِيَ إلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ ونَحْيا وما يُهْلِكُنا إلّا الدَّهْر…﴾ الجاثية/ 24.﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾. الحج/ 71
كانوا- في أغلبهم- قساة القلوب غلاظا، يتعاطون الخمر والميسر ويأتون الفواحش ما ظهر منها وما بطن. استحيوا أبناءهم و وَأَدُوا بناتِهِمْ مُعتقدين أنّهنّ لهمْ بلاء و نحْس و هِنة، وَمَجْلَبَةٌ للعار و الإملاق. وقد خاطبهُمُ الله تعالى في محكم تنزيله بقوله: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاق...﴾ والشّيخ ناصر مكارم الشّيرازي( حفطه الله) ذكر في تفسيره لهذه الآية، أنّها تشير إلى جو الفساد و سوء الوضع الاقتصادي الذي كان يعيشه العرب في ذلك الوقت؛ حيث كان بعضهم يقتل أولاده بسبب الخوف من الفقر والعيلة. وتلك الأوضاع كانت نتاج الثقافة السائدة آنذاك؛ من خرافات وعادات وتقاليد ورثوها عن آبائهم، ثم نمَتْ في نفوسهم وتَرَسَّخَتْ بسبب جهلهم.
وكما سَبَقَ أنْ أَشَرْت، فَقَدِ اِقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ اللَّطيفِ الخَبير، أنْ﴿…بَعَثَ في الأُمِّيّين رَسولًا منهُمْ يتْلو علَيْهمْ آياتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبين﴾الجمعة/ 2. بلْ إنَّ محمدا- صلّى الله عليه وآله وسلّم- بُعِثَ رحمةً لِلْعالَمين ونورَ اللهِ المُبين، وحجّةَ ربِّ العالمين. وفي هذا نجد كثيرا من الروايات المتواترة تتحدث عن الغاية من البعثة، منها قوله- صلّى الله عليه وآله و سلّم: « إنّما بُعِثْتُ لأتمّمَ مكارِمَ الأخْلاق ».
والمفهوم من هذا الحديث أنّ الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه آله و سلّم- قد بُعِثَ في هذا العالم ليقوم بإصلاح أخلاق النّاس جميعا. والتّعبير بـــ (إنّما) في هذا القول، يدلّ على الحصر، وهذا دليل على أنّ في بعثة الرّسول صلّى الله عليه آله و سلّم غايةً مهمّةً وحجّةً بالغة.
وقد قرأنا وصْفَ الله تعالى لخُلُقِ نَبِيِّهِ الكريم – صلّى الله عليه وآله و سلّم- في القرآنِ الكريمِ حين قال: ﴿ وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.القلم/ 4. فإذا نظرنا إلى معنى هذه الآية في التّفاسير، أدركنا إجماع المفسّرين على نسبة الحمد والمجد له صلّى الله عليه آله و سلّم. فعلى سبيل المثال، يرى الشّيخ “ناصر مكارم الشيرازي” في تفسيره أنّ هذا التعبير القرآني يبيّن لنا بأنّ أخلاق النّبيّ صلّى الله عليه آله و سلّم لا نظير لها. وهذا ما قد أكّده الشيخ “الطّبرسي” في تفسير هذه الآية مِنْ أنّ ظاهرَ الرّسولِ الأكْرم كان مع الخلْق، وباطنَه صلّى الله عليه آله و سلّم- كان مع الحقّ. فالمقصود من ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) أنّ المصطفى- صلّى الله عليه وآله وسلّم –كان متخلّقا بأخلاق الإسلام، بل كان هو القرآنَ النّاطِق. ونحن نعرف أنّ الإسلام هو دين الله الحقّ الّذي ارتضاه لعباده، وبالتالي فهو مشتمل على كل الكمالات المطلوبة والمحمودة. وهذا يعني أنّ كلّ ما قد ارتضاه الله – عزّ وجلّ- لنفسه، من رحمةٍ وحكمةٍ ومجدٍ، وجميعِ جمالِهِ وكمالِهِ، تعالى، قد أهداه لنّبيّه وحبيبِهِ صلّى الله عليه آله و سلّم. وخُلاصَة الكَلام ممّا سبق، أنّ الرّسول الأكرم – صلّى الله عليه آله و سلّم- جاء لينشرَ مكارمَ الأخلاقِ بين النّاس، ويأخُذَ بِأَيْديهِمْ إلى الكمالات المعنوية الإلهية.